المصلحة والمبدأ: بين الواقعية والانحراف

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتداخل المصالح، كثيراً ما نسمع عبارة متكررة:
«المواقف تحددها المصالح فقط… لا مبادئ ولا أيديولوجيات».
هذه الجملة قد تبدو للوهلة الأولى واقعية، لكنها تحمل في طياتها خطرًا كبيرًا: إذ توحي بأن المصلحة يمكن أن تُدار بمعزل عن أي إطار قيمي، وكأنها كائن حيّ مستقل، لا جذور له، ولا ذاكرة، ولا مبدأ.
إن المصلحة موجودة بلا شك، فهي جزء من حركة التاريخ والسياسة، ومنطق إدارة الدول والأفراد. لكن الجديد والمقلق هو هذا الترويج لفكرة أن المصلحة تستغني عن المبدأ والقيم والرؤية. المصلحة الحقيقية لا تنبت في فراغ: فهي مرتبطة برؤية كلية، بضوابط أخلاقية، وبهوية تاريخية وثقافية.
وهنا يستحضر المرء ما كان يؤكّد عليه مالك بن نبي: أن «الفكرة الأخلاقية» ليست زينة إضافية في العمل الاجتماعي والسياسي، بل شرط من شروطه. لم يكن يحذّر من الأخلاق نفسها، بل من لحظة غيابها عن الفعل العام، حين تتحول السياسة إلى مجرد إدارة باردة للمنافع، وتفقد قدرتها على حمل مشروع حضاري أو حماية هوية المجتمع.
كما يلاحظ بن نبي في “ميلاد مجتمع” (1962)، هناك نوعان من الخيانة:
أحدهما يهدم روح المجتمع ومبادئه وأخلاقه، والآخر يهدر ملكاته وإمكاناته في اتجاهات لا تخدم واقعه.
هذا التقسيم يوضح أن المصلحة التي تُفصل عن المبادئ لا تهدد السياسة فحسب، بل تهدم توازن المجتمع نفسه، وتفرغ العمل العام من كل معنى حضاري، بما يشبه تمامًا ما نراه اليوم في خطاب “المصلحة فقط”.
وعندما تُفصل المصلحة عن المبدأ، لا تبقى مصلحة عليا تُصان، بل تتحوّل إلى ذريعة عابرة تُقايض بها القيم ويُستباح بها الثابت. حينها يُباع كل شيء… وبثمن بخس، ويصبح خطاب “المصلحة فقط” وسيلة لتبرير كل تنازل، وكل تراجع عن الثوابت، تحت غطاء الواقعية أو البراغماتية.



