نشاطات الكرسي

حمودة بن ساعي… الرجل الذي عاش بصمت، لكنه بقي حيًا في الذاكرة

كلما أثير الحديث عن حمودة بن ساعي، ارتفع التفاعل مع كل ما يُكتب عنه، على الرغم من قلّة المعطيات المتوفرة حوله، واقتصارها على معلومات عامة ومتناثرة. ويبدو أنّ هذا التفاعل يخفي سرًّا عميقًا، مرتبطًا بجاذبية شخصية ظلّت آثارها موزّعة بين ما عاشه الرجل وما كان يمكن أن يعيشه لو لم تتدخل قسوة التاريخ.

لقد كان مسار حمودة بن ساعي شاهدا على اجتماع النبوغ والذكاء والحدّة الذهنية. غير أنّ هذا النبوغ وجد نفسه في مواجهة آلة استعمارية عملت على تكسير كل محاولة للتميّز العلمي والفكري عند الجزائريين. وبينما استطاع مالك بن نبي أن يقاوم هذه الآلة، فإنّ حمودة بن ساعي كان قدره أن يقع تحت وطأتها، فحُطّم مساره في اللحظات التي كان يمكن أن يسطع فيها نجمه.

وصفُ الأستاذ نور الدين خندودي يلخّص ببلاغة مأساة هذا الرجل. فقد كتب:

«Lui, le sorbonnard des années 1930 que le dur besoin a mué en manœuvre dans les usines, en écrivain public dans un café à Batna, sa ville natale où certains le prenaient pour un fou.»

«هو، ذلك الطالب السوربوني في ثلاثينيات القرن الماضي، الذي حوّلته قسوة الحاجة إلى عامل في المصانع، ثم إلى كاتب عمومي في مقهى بباتنة، مدينته التي كان بعض أهلها يظنونه مجنونًا.»

من جهته، استعاد الأستاذ عبد الرحمن بن عمارة عبارة مؤثّرة وردت في مقدمة الدكتور عبد العزيز خلدي لكتاب Les Conditions de la Renaissance لمالك بن نبي، يقول فيها:

«Je suis particulièrement tenté par une biographie, la plus tourmentée et la plus émouvante que je connaisse en Algérie.»

«إنني أشعر بإغراء خاص لكتابة سيرة هي الأكثر تمزّقًا وإثارة للعاطفة مما عرفته في الجزائر.»

وكأنّ هذه العبارة كُتبت أصلًا عن حمودة بن ساعي.

ويواصل بن عمارة قراءته، مستشهدًا مرة أخرى بخندودي، الذي وصف هشاشة الرجل بقوله:

«Âme sensible, personnalité fragile… moins battant, peu déterminé à résister, [Bensaï] a fini par céder.»

«روح حسّاسة، شخصية هشّة… قليل القدرة على المقاومة، غير مهيّأ للصمود، فانتهى به الأمر إلى الانهيار.»

و صدق الاستاذ عبدالرحمان بن عمارة حين كتب : الشهادة الأعمق، والأكثر دلالة على قيمة الرجل الفكرية ، جاءت من مالك بن نبي نفسه، الذي قال:

«… les idées qui ne pouvaient mûrir ni surtout être récoltées chez lui ont émigré chez moi.»

«… إن الأفكار التي لم تكن تستطيع أن تنضج، ولا أن تُجنى لديه، قد هاجرت إليّ.»

هذه الجملة وحدها كافية لتقدير حجم النبوغ الكامن في شخصية حمودة بن ساعي. فهي ليست مجرد اعتراف، بل إعلان بأنّ جزءًا من العبقرية التي لم يُتح لها أن تتفتح في بيئة معطّلة، وجد طريقه إلى مشروع مالك بن نبي الفكري. وهذا أرقى تكريم يمكن أن يقدّمه مفكّر كبير لصديقه.

لم يخلّف حمودة بن ساعي إلا كتابه المعروف عن الشيخ عبد الحميد بن باديس، وبعض المقالات التي لم تُجمع بعد، وربما أوراقًا مجهولة المصير. ومع ذلك، ظلّت النخبة الجزائرية تحترمه، لأنها تدرك أنّها أمام عقل حُطِّم من الخارج قبل أن يعبّر عن كل ما كان قادرًا عليه.

رحم الله حمودة بن ساعي… الرجل الذي عاش بصمت، لكنه بقي حيًا في الذاكرة بما كان يمكن أن يكون، قبل أن يبقى بما كان بالفعل.

فريق التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى