حوار جريدة البصائر مع توماس سيبيل

جريدة البصائر، العدد الجديد، الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية : الحوار الذي أجراه الدكتور هشام شراد مع الناشر الفرنسي المسلم بلال توماس سبيل Thomas Sibille .

إلتقى الباحثون والقراء يوم السبت 18 أكتوبر 2025 بمقر مركز آفاق للاحتفاء بفكر مالك بن نبي وتجديد قراءة إنتاجه الفكري من تنظيم الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية الذي يشرف عليه الدكتور عمار طالبي ، بحضور ضيف الشرف الأستاذ توماس سبيل Thomas Sibille.
بهذه المناسبة أجرى الدكتور هشام شراد معه
حوارًا يهدف إلى التعريف أكثر بمسيرته، والتزاماته، وتأملاته الفكرية.
السؤال الأول: حول التراث والثقافة الجزائرية
“الأستاذ سيبيل، لقد قمتم باستكشاف وتوثيق العديد من الأماكن التاريخية في الجزائر، مثل القصبة ودار الحديث، كما أنجزتم تقارير حول شخصيات بارزة كالعلاّمة الشيخ البشير الإبراهيمي. ما الذكريات أو الدروس التي احتفظتم بها من هذه التجارب؟ وبرأيكم، ما الذي يجعل هذا التراث أساسيًا في فهم تاريخ الجزائر وهويتها؟”
أ.توماس سبيل : ما كان يدهشني دائمًا، وأنا أتجول في الأماكن التاريخية بالجزائر – من قصبة الجزائر إلى تلمسان، ومن دار الحديث إلى أولاد براهيم، ومن بجاية إلى بريان – هو تلك الحضور الخفي الذي يسكن الجدران والأزقة والمساجد والمكتبات.
فالتراث الجزائري ليس مصنوعًا من الحجر والواجهات فحسب، بل من النفوس والأصوات وحركات التوارث التي حفظت الذاكرة حيّة.
فعندما تزور دار الحديث بتلمسان، تشعر أن صدى الشيخ البشير الإبراهيمي وجيله من الرجال الذين آمنوا بقدرة العلم على بناء الأمة ما زال يتردد في المكان.
إنه ليس متحفًا جامدًا، بل مدرسة حيّة نابضة بالروح والمعنى.
وأنا أؤمن أن الجزائر تحمل، في أرضها كما في عمارتها، أثر مجد حضارةٍ عظيمة وبصمة تضحيةٍ خالدة.
فكل مدرسة، وكل مكتبة قديمة، وكل مسجد، إنما يعبّر بطريقته عن أن الثقافة ليست ترفًا ولا زينة، بل شكلٌ من أشكال المقاومة ووسيلةٌ للبقاء المعنوي.
وهذا بالتحديد ما يجعل هذا التراث في نظري أساسيًا:
فهو يذكّرنا أن الهوية ليست شعارًا، بل ذاكرة متجسدة — ذاكرةُ شعبٍ استطاع أن يبقى واقفًا، محافظًا على إيمانه وعقله كآخر قلعتيه.
إن التجول في شوارع الجزائر، واستكشاف ربوعها، هو بمثابة زيارةٍ لمتحفٍ مفتوح تحت السماء، ولقاءٍ مع شعبٍ مضيافٍ وفخور، تربطك به علاقات بسيطة وصادقة ودافئة.
وإن كانت الجزائر تُعاني أحيانًا من صورةٍ سلبية في الخارج، فإن إقامةً قصيرة على أرضها كافية لتبديد كل الأحكام المسبقة.
فلا يمكن لأحد أن يفهم الفخر الجزائري ولا ثقافة الكرم إلا إذا عاشها عن قرب، فهي ثمرة تاريخٍ مجيد تشهد عليه آثار الماضي كما تشهد عليه طيبة أهلها.
إنه شعبٌ أنار العالم بالإسلام، حتى لُقّبت بجاية في عصورها الزاهرة بـ«مكّة الصغرى»، إذ كانت مقصدًا للعلماء من شتى أنحاء العالم.
وشعبٌ واجه الاستعمار بإيمانٍ وصلابة، وجعل من العلم وسيلةً لتحرير العقول قبل تحرير الأجساد.
وإذا عدنا إلى أعمق طبقات التاريخ، نجد أن ثراء هذا البلد لا ينضب.
فحتى بعد الاستقلال، لم تنسَ الجزائر أولئك الذين يناضلون من أجل حريتهم، بل وقفت إلى جانب العديد من الدول الإفريقية، وما تزال اليوم تناصر فلسطين.
تلك هي الجزائر: تاريخٌ زاخر، وماضٍ مجيد، وتجارب تخطاها الشعب بشجاعة، جعل من العلم والهوية بوصلته في مواجهة التحديات.
وحين تأتي إلى هنا، تتعلم التواضع، والصبر، والكرم، وتكتشف جمال الإسلام حين يُعاش ببساطةٍ وصدق.


السؤال الثاني: حول النشر ونقل المعرفة
“أنتم على رأس دور نشر ساهمت في إعادة اكتشاف أعمال كبرى لمالك بن نبي، وفي نشر الفكر الإسلامي في أوروبا. ما هي، برأيكم، أبرز التحديات والمسؤوليات المرتبطة بهذه المهمة؟ وكيف ترون مستقبل نشر التراث الفكري الإسلامي؟”
النشر كفعلٍ من أفعال الوعي
أ.توماس سبيل :
النشر، كما أتصوره، ليس مهنة محايدة، بلا مسؤولية أخلاقية وفكرية.
نشرُ كتابٍ هو في جوهره إحياءٌ لنصٍّ في عالمٍ يميل إلى النسيان، وهو امتدادٌ لسلسلةٍ من المعنى تمتد من العالِم إلى القارئ، ومن المؤلف إلى الوعي الجمعي.
إنه مساهمة في نقل التاريخ، وفي نشر الأفكار، وفي الارتقاء بالإنسان، وإصلاح المجتمع.
حين شرعنا في إعادة نشر أعمال مفكرين مثل مالك بن نبي والشيخ البشير الإبراهيمي، لم يكن هدفنا مجرد التعريف بهم، بل إعادة وصل ما انقطع من استمراريةٍ فكرية.
لقد أدت الحقبة الاستعمارية، ثم العولمة، إلى تمزيق هذا الخيط الحضاري.
ومن دون ذاكرة فكرية، تفقد الأمة انسجامها وبوصلتها.
تحديات عصرنا كثيرة: سطحية الفضاء الرقمي، تشتت العقول، وإغراء السرعة والفراغ.
وفي مواجهة كل ذلك، يبقى الكتاب فعل مقاومة.
فهو يعيد إلينا البطء الجميل، والعمق، والوفاء للحقيقة.
في حين تسعى الصورة إلى إثارة العاطفة، يدعونا الكتاب إلى التفكير.
إنه يمنح القارئ مادةً للتأمل، ومن ثمّ قدرةً على الفعل.
الناس – كما يقول بن نبي – نوعان: إنسان-فكرة وإنسان مفكر.
الإنسان-الفكرة هو الذي تستبدّ به الأفكار الجاهزة، يكررها دون وعي.
أما الإنسان المفكر، فهو الذي يسائل، ويحلل، ويميز، ويصوغ رأيه بنفسه.
وبهذا وحده يصبح حرًّا، في حين يبقى غيره أسيرًا للأفكار التي فُرضت عليه.
لكن مستقبل النشر الإسلامي سيتوقف على مدى ذكائنا في فهم حاجات العصر.
كثير من الناشرين انشغلوا بما يُباع، لا بما يُنضج.
بحثوا عن القيمة المضافة المالية، وأهملوا القيمة المضافة الفكرية.
كرروا الموجود بدل أن يبدعوا الجديد، فدفعوا القارئ إلى اجترار ما قيل، بينما غاية المعرفة الحقيقية أن تُولّد الوعي.
الناشر الذي يدرك أن عمله في النشر يفتح أمام الناس كتبًا توقظهم، وتجعلهم يفكرون، وتمنحهم أدوات الفعل، هو في الحقيقة يخوض معركة فكرية نبيلة.
لأنه يمنح الإنسان الوسائل التي تمكّنه من فهم العالم، ومن وضع بصمته فيه، ومن المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية ومواجهة تحدياتها.
إحياء النصوص الكبرى في تراثنا، مثل أعمال بن نبي والإبراهيمي ومن سار على دربهما، ليس مجرد نشر لكتب، بل هو تقديم لبوصلة فكرية.
إنه تمكين للقارئ من أن يكون فاعلًا في حياته، لا مجرد مستهلكٍ للصور والكلمات الزائلة.
ومن دون هذا الوعي، قد يتحول النشر الإسلامي إلى متحفٍ للأفكار الميتة، تُعرض فيه النصوص منزوعة الصلة بواقع الناس، في حين أن الكتاب يجب أن يكون جسرًا للمعنى الحيّ، وأداةً للإصلاح الداخلي والاجتماعي.
وقد عبّر الشيخ البشير الإبراهيمي عن هذه الحقيقة أبلغ تعبير حين قال:
«الوفاء لتراث السلف ليس في حفظ الرماد، بل في نقل الشعلة.»
وهكذا، يحمل الناشر الواعي برسالته مسؤوليتين عظيمتين:
أن يصون الذاكرة الفكرية للكبار،
وأن ينقل الشعلة التي تضيء العقول وتفتح دروب النهضة.
ذلك، في نظري، هو معنى النشر في أعمق أبعاده:
ليس تجارة كتب، بل فعلٌ من أفعال الحضارة.
السؤال الثالث: حول تأثير مالك بن نبي
“الأستاذ سيبيل، ذكرتم في إحدى المقابلات أن قراءة ودراسة أعمال مالك بن نبي علمتكم «حُسن التفكير». ما المقصود بذلك؟ وكيف أثرت فكرته في رؤيتكم للعالم، وفي عملكم الثقافي والنشري اليوم؟”
قبل أن أكتشف فكر مالك بن نبي، كنت قد وقعت في بعض المزالق التي كنت أظنها من مقتضيات الدين:
كنت أميز بين المعرفة الدينية والمعرفة الدنيوية، وأتصور الإسلام كمنظومة من الطقوس المعزولة عن العالم، وأعتقد أنه يمكن أن يتطور في عالم مغلق دون تفاعل مع الحياة والمجتمع والحضارة.
ومن غير أن أدرك، كنت أحمل رؤية علمانية للإيمان، تشبه تلك المنتشرة في أوروبا: إسلام محصور في المجال الخاص، منفصل عن الواقع.
غير أن قراءة مالك بن نبي غيّرت هذه النظرة جذريًا.
لقد علمتني أن الأفكار ليست متساوية القيمة، وأن للمعنى مراتب: فهناك أفكار حيّة، وأخرى ميتة، وأخرى قاتلة.
وأبرز ما كشفه لي بن نبي هو أن العمل الحقيقي للمسلم يبدأ من داخله، لأن القرآن يقول:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».
فلا يمكن إصلاح العالم قبل إصلاح الذات.
ومن خلال بن نبي، اكتشفت من جديد إسلامًا منسجمًا مع بعده الحضاري: إسلام لا يعادي العالم، بل يسعى إلى تغييره بالوعي والعلم والأخلاق.
فهمت أن الإسلام ليس أيديولوجية منغلقة، ولا هو هوية دفاعية أو انفعالية، بل هو «حقيقة عاملة»، مبدأ ديناميكي يُغذي الحياة الفكرية والاجتماعية.
ولكي يكون الإسلام حقيقة حيّة، لا بد أن تُحركه أفكار حيّة.
كانت هذه الاكتشافات نقطة تحوّل في طريقتي في التفكير في الدين والحضارة والحياة ذاتها.
أدركت أن الأصالة ليست نقيض الفاعلية، بل شرطها.
كان بن نبي يؤكد دائمًا على هذا التوازن المزدوج: أن نحافظ على الأصالة، وفي الوقت نفسه نستعيد فاعليتنا.
فالإيمان بلا عمل يولّد الجمود، والعمل بلا إيمان يفقد المعنى.
وحين تصالحت مع هذه الرؤية الشاملة والمتوازنة للإسلام، كففت عن النظر إليه كهوية أو ملاذ.
تعلمت أن أراه كـ«رؤية للعالم»، قادرة على أن تعيد المعنى إلى الحداثة، وتُصالح الإنسان مع نفسه، ومع المجتمع، ومع الله.
فالمطلوب ليس الهروب من العالم ولا إدانته، بل المشاركة فيه بوعي وعقل وإيمان.
إن عالمنا المعولم اليوم قد فصل بين ما يُسمى «الإنسان المتدين» و«الإنسان الدنيوي»، وكأنهما طبيعتان مختلفتان.
لكن الإسلام لم يعرف يومًا هذا الانفصال: فهو يجمع بين الدنيوي والروحي، بين الإيمان والعمل، بين الفرد والجماعة.
وهكذا أنشأ حضارة عظيمة تجاوب فيها العلم مع الروح، والعقل مع الوحي.
استعادة هذه الرؤية، من خلال فكر بن نبي، كانت بالنسبة إليّ بمثابة ولادة جديدة.
فقد أخرجتني من دوائر الانغلاق والطائفية والسلبية، إلى اكتشاف إسلام الحركة والبناء والمشاركة.
فالإسلام، حين يُفهم في عمقه، لا يُغلق الأفق، بل يفتحه، يرفع الإنسان، ويدفعه إلى العمل.
لقد كان هناك في حياتي ما قبل بن نبي وما بعده.
قبل، كنت أعتقد أن الوفاء للإسلام يعني الانعزال عن العالم.
أما بعد، فقد فهمت أن الوفاء الحقيقي هو المشاركة فيه بوعي، وحمل رؤية وأخلاق وأمل.
يعلمنا مالك بن نبي أيضًا أن الحقوق ليست سوى ثمرة للواجبات.
فلا يُنال شيء بلا جهد، ولا يُستحق شيء بلا مسؤولية.
ولهذا كان يدعونا دائمًا إلى العمل، إلى المشاركة الواعية، إلى البناء لا إلى الانتظار أو الشكوى.
لقد وقف ضد كل رؤية انفعالية أو انتقامية للعالم الإسلامي.
فبعد الاستقلالات، كان يحذّر من فخّ خفيّ: أن نستبدل احتقار الأقوياء بحقد الضعفاء.
ففي نظره، لم يكن التحرر سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا وفكريًا أيضًا.
إن الاستقلال الحقيقي يبدأ حين يتحرر الفكر من عقدة التسلط ومن ذهنية الضحية.
وحين سُئل عن دور المسلم في العصر الحديث، وضع لنا بن نبي خارطة طريق مضيئة:
اعرف نفسك، واعرف الآخر، وتعرّف إلى العالم.
هذا الثلاثي يلخص برنامجًا كاملاً للنهضة.
فـ«اعرف نفسك» يعني أن تدرك أصلك وتاريخك ورسالتك، إذ لا يمكن أن تعرف إلى أين تذهب إن لم تعرف من أين جئت.
و«اعرف الآخر» تعني القدرة على العيش مع المختلف، على الحوار والبناء المشترك دون أن تفقد ذاتك.
أما «تعرّف إلى العالم» فتعني ألا تسمح للأحكام المسبقة أن تحدد العلاقة بين الشعوب، بل أن تُظهر حقيقتك لا بالمطالبة، بل بالمساهمة، بأن يكون تراثك قوة اقتراح للعالم.
وبإعادة الإسلام إلى مقامه النبيل، إلى بعده العملي ورسـالته الكونية، يدعونا بن نبي إلى أن نجعل من الإيمان حقيقةً عاملة — vérité agissante — أي حقيقة تُترجم في الفعل، وتُثمر في العالم.